في ذكرى رحيله جورج حبش يقول: ستبقى سورية قلعة العروبة
بقلم: زياد ابوشاويشفي ستينيات القرن الماضي كانت حركة القوميين العرب في أوج نشاطها في الوطن العربي وعلى الأخص سورية التي شكلت مع مصر أول تجربة عملية لتحقيق شعار الوحدة العربية التي نادت بها الحركة ومؤسسها الراحل الدكتور جورج حبش.الحكيم كما كان رفاقه ومحبوه يطلقون عليه تعلق بسورية حباً لها كوطن ثانٍ له وإدراكاً عميقاً لأهميتها ولدورها المنتظر في مسيرة البناء القومي العربي باتجاه تحرير ما تبقى من الدول والأرض العربية المستعمرة، ونحو تضامن وتنسيق عربي يؤدي لتحشيد قوتهم من أجل استعادة فلسطين ودحر المشروع الصهيوني في المنطقة. كان جورج حبش من أكبر الحالمين في الوطن العربي، وكان ذا نظرة ثاقبة نحو المعضلات الكبيرة التي تعترض مشروعه القومي ويتعامل معها بمنطق المعترف بوجودها والمشخص بدقة ومن غير لف أو دوران لحجمها وكذلك للثمن الذي لابد من تسديده لتجاوزها. ظهر هذا في معظم تحليلاته النظرية والفكرية لجملة عناوين كبرى من بينها أزمة العمل العربي في ظل أنظمة التبعية، وأزمة حركة التحرر العربية، وتالياً أزمة اليسار الماركسي الذي تحول إليه الحكيم دون أن يقطع مع جذوره القومية الأصيلة، ودون أن يكون انحيازه للفقراء وطبقة العمال والفلاحين على حساب حلمه الكبير بزوال الحدود بين الدول العربية ووضع نهاية ل"سايكس- بيكو" تمهيداً لتحرير فلسطين وغيرها من الأرض العربية التي تمت سرقتها من دول الجوار غداة الحرب العالمية الأولى والثانية.قاتل جورج حبش على عدة جبهات وعمل بإخلاص قل نظيره من أجل استعادة تاريخ مجيد للعرب يتيح لهذه الأمة مكاناً محترماً بين الأمم الأخرى ويمنح أجيالنا القادمة أملاً في رؤية وطنهم الكبير قوياً وحراً يحقق لهم الحرية والكرامة والعدالة، وهكذا وجدناه في اليمن الجنوبي وفي مصر عبد الناصر وسورية والأردن ولبنان، وخصوصاً في فلسطين فارساً للكلمة الشجاعة والموقف الراديكالي المقبول جماهيرياً والضامن لمسيرة ظافرة نحو دحر المشروع الامبريالي الصهيوني الرجعي سواء ما تعلق منه بفلسطين أو بمستقبل الأمة واستعادة وحدتها.في نزاعه الأخير مع الموت تبلغ الحكيم وهو يحتضر أن الحدود بين رفح ومصر تم تحطيمها ولم تعد قائمة فابتسم الرجل وأبدى سعادته بهذا متمنياً أن تزول كل الحدود والحواجز بين الدول العربية، وأنه يغادر الدنيا سعيداً لسماعه الخبر، معتبراً ما جرى فاتحة لتصحيح وضع خاطئ خلقته دول استعمارية وحكام عرب لا يستحقون الاحترام.كان زملاؤه من مؤسسي الحركة يحملون له الحب والاحترام ويعتبروه قدوتهم في مجال النضال والصدق وتمثل قيم العمل الصحيح واحترام رأي الأكثرية كما التعليمات الصارمة التي صبغت تاريخ الحركة على الصعيد التنظيمي.إن تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ووضع الاستراتيجية السياسية والتنظيمية لها كان من أهم انجازات الراحل الكبير، ولعل المدقق في نظرية الجبهة الثورية كما رسمتها الوثيقة الأهم في تاريخ الثورة والتي أشرنا لها باسم الاستراتيجية السياسية والتنظيمية يدرك إلى أي مدى كان جورج حبش مهتماً بتحديد معسكر الأعداء والأصدقاء وأسلوب التعامل مع البرجوازية الوطنية وأنظمتها كذلك. إن تحديد أسلوب المواجهة مع العدو كان أيضاً يعبر عن نضج وفهم لطبيعة الكيان الصهيوني وما يمثل باعتباره قاعدة متقدمة للامبريالية بشكلها القديم والجديد.وفي سياق البحث عن قواعد للثورة ولجبهته عمل الحكيم على ترسيخ قواعد العلاقة بينه وبين الدول العربية على خلفية معرفة بطبيعة أنظمتها الحاكمة وموقعها في خريطة الصراع مع العدوكانت سورية في بؤرة اهتمام جورج حبش إلى الدرجة التي أوصلته ليسجن فيها على خلفية نشاطه واتصالاته برجالها الأوفياء لوطنهم ولعقيدتهم القومية، وكان ذلك في عام 1969. وقد تمكن من الهرب من السجن بعد عدة أشهر قضاها في السجن بمساعدة رفاقه وعلى رأسهم الشهيد الدكتور وديع حداد، وعمل الحكيم على إقامة أفضل العلاقات مع قوى وأحزاب سورية يسارية وثورية توجها بلقاء تاريخي بالرئيس الراحل حافظ الأسد على هامش قمة الصمود والتصدي في طرابلس ليبيا غداة زيارة السادات المقبور للكيان الصهيوني وبدء مسيرة التفكك والانهيار العربي. كان جورج حبش واضحاً في علاقته بسورية العربية وبقيادتها التي منحته كل الاحترام اللائق برجل أمضى عمره مدافعاً عن الحق العربي والكرامة العربية، وكان من جانبه يعرف قيمة البلد الذي يتمركز هو وقيادة الجبهة فيه ويحرص على تخفيف التعارضات معها قدر المستطاع.في لجة الإرباك والتخبط الذي أحدثه الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982وخروج المقاومة الفلسطينية منه إلى المنافي بقي الحكيم ومعه الجبهة متماسكاً وثابت الوفاء لمن قدم لفلسطين الدعم ونادى بتحريرها في شعاراته ومناهجه الدراسية وثقافة مفكريه وإصدارات حزبه. كان هناك من اعتبر فرنسا هي الحليف الأصدق وآخرون اعتبروا السعودية هي هذا الحليف الصادق رغم أنها وفرنسا كانا مصنفين في عداد معسكر الأعداء، وارتبك آخرون فوجهوا سهامهم لسورية، لكن جورج حبش بقي على اتزانه ورؤيته الصحيحة لما جرى، وبأن الهزيمة في لبنان كانت تحصيل حاصل لواقع فلسطيني وعربي لا ينتج غير الهزيمة.رحل الحكيم في السادس والعشرين من كانون ثاني (يناير) عام 2008 وترك إرثاً كبيراً وغنياً من القيم الثورية والنماذج المشرفة لمواقف نزيهة وتحمل قدراً كبيراً من المصداقية الوطنية والقومية، رحل وهو ينظر نحو سورية العربية باعتبارها قلعة الصمود والعروبة، رحل وهو يتطلع إلى دمشق التي يحاول بعض الصغار أن يدنسوها بتدخل غربي استعماري، دمشق التي يتآمرون عليها وعلى شعبها الذي أحبه جورج حبش، دمشق التي بدونها ليس هناك عروبة.في ذكرى رحيله الرابعة نستمطر شآبيب الرحمة على روحه الطاهرة، ونقول له نم أيها الرفيق العزيز قرير العين فلن تركع دمشق وستبقى عزيزة ومنيعة كما أردتها طوال عمرك، وسلام عليك وعلى كل الشهداء الذين قدموا لأمتهم ولأوطانهم أغلى ما يملكون..المجد لهم ولك ولسورية وشعبها العظيم وشهدائها البواسل.Zead51@hotmail.com